أ.د صلاح سلطان* إن من أكبر النعم بعد الإسلام نعمة الأمن و الاطمئنان، وهما مرتبطان بصلاح
الإنسان
، ورقي المجتمع وعدالة الدولة ، وكلٌ يسهم بجزء في تحقيقه وتنميته أو
تخريبه
وتدميره .
الأمن الاجتماعي في الإسلام فريضة شرعية، وضرورة حياتية ، لا يستغنى عنها
إنسان ولا
حيوان ولا طير ، ولا جماد. والأمن نعمة من الله تعالى يبسطها في قلوب
الأفراد
والقرى والمجتمعات والدول ، وقد امتن الله تعالى بهذه النعمة الضرورية لكل
كائن حي
، بل لكل شيء في هذه الحياة ، ومن ذلك ما يلي:
أمن الأفراد- قوله تعالى : "يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ
الْآمِنِينَ"
-القصص : 31- .
- قوله تعالى: "هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى
أَخِيهِ
مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" -يوسف
: 64-.
أمن المجتمعات- قوله تعالى : " وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً
مُّطْمَئِنَّةً
يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ
اللّهِ
فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ
يَصْنَعُونَ
-النحل : 112-.
- قوله تعالى : " لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ
آمِنِينَ
مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ
تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً" -الفتح : 27-.
- قوله تعالى: " لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء
وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُم
مِّن
جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ . " -قريش:1-4 -.
أمن البلاد- قوله تعالى: " وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ
آمِناً"
-إبراهيم: 35-.
- قوله تعالى: "أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ
ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ " -القصص: 57-.
- قوله تعالى: "وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي
بَارَكْنَا
فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا
لَيَالِيَ
وَأَيَّاماً آمِنِينَ" -سبأ : 18-.
- قوله تعالى: "وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ"
-الحجر:
82-
- قوله تعالى: "ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً
نُّعَاساً
يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ" -آل عمران: 154-.
- قوله تعالى: "وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أذاعُوا به"
-النساء : 83-.
- قوله تعالى: "فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ
وَقَالَ
ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ" -يوسف : 99-.
أما الأحاديث فهي كثيرة ، ونلاحظ أن علماء الحديث يوردون عناوين تدل على
أهمية
الأمن، من ذلك ما أورده ابن حبان في صحيحه في كتاب البر والإحسان ، باب صلة
الرحم
وقطعها ، ذكر إثبات أن طيب العيش في الأمن وكثرة البركة في الرزق للواصل
رحمه.
وقد أورد البيهقي في شعب الإيمان حديثا برقم (4615) أن عبد الله بن عباس
وقتادة
كانا يريان في معنى قوله تعالى : "ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ
النَّعِيمِ"-التكاثر: 8-، أن معنى النعيم: الأمن والصحة.
وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يجدد الدعاء بتجديد الأمن كل شهر مع
رؤية كل
هلال، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا
رأى الهلال قال : اللهم أهله علينا باليمن والإيمان، والسلامة والإسلام ،
ربي وربك
الله). (مسند أحمد - مسند أبي محمد طلحة بن عبيد الله - مسند أبي محمد طلحة
بن عبيد
الله - حديث رقم: 1400) ونلاحظ في رواية الحديث أن الدعاء بالأمن قبل
الإيمان .
دعوة إبراهيموكانت دعوة سيدنا إبراهيم لأرض الحرم بالأمن قبل السعة في الرزق، ومنه قوله
تعالى:
"وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً
وَارْزُقْ
أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ قَالَ
وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ
النَّارِ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [البقرة : 126] ، وتوعد الله الناس بشيء من الخوف قبل
نقص
الأموال والأنفس والثمرات، في قوله تعالى :"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
مِّنَ
الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ" [البقرة : 155] ، وإذا كان الأمن لغة عكس الخوف
ولشدة
خطره فقد ذكر الله تعالى الخوف ومشتقاته في القرآن الكريم (124) مرة .
ضرورة حياتيةلا شك أن نعمة الأمن تأتي في أولويات أي إنسان أو كائن حي ، والإنسان
الخائف
المذعور يتوقف عقله وجسده عن الإنتاج ، وتشل جوارحه تماما ، ولا يفكر إلا
في كيفية
الهروب إلى الظلال الآمنة، وتاريخ العالم يجسد أن الإنسان إذا فقد إنسانيته
سرعان
ما يستخف بأرواح الناس، وقد شدد الإسلام في العقوبة على ذلك ومن الأدلة على
هذا ما
يلي:
1- قص القرآن الكريم أن فرعون، اتخذ قراراً- بسبب رؤيا منامية أن ملكه
سينتهي على
يد رجل- أن يروع كل بيت وأب وأم وطفل كما قال تعالى: " إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلَا فِي
الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ
يُذَبِّحُ
أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ"
-القصص:4-، لكن الظاهرة الفرعونية تكررت في القرآن الكريم 74 مرة؛ تحذيرا
من
تكرراها وتكوينها ، مما يهدد الأمن الاجتماعي داخل وخارج أي بلد.
دستور أخلاقي2- روى البيهقي بسنده عن صالح بن كيسان قال: "لما بعث أبو بكر -رضي الله
عنه- يزيد
بن أبي سفيان إلى الشام على ربع من الأرباع ، خرج أبو بكر رضي الله عنه معه
يوصيه
،فقال: يا يزيد إنكم ستجدون أقواما قد حبسوا أنفسهم في هذه الصوامع ،
فاتركوهم و ما
حبسوا له أنفسهم ، وستجدون أقواما قد اتخذ الشيطان على رؤوسهم مقاعد ، يعني
الشمامسة ، فاضربوا تلك الأعناق ، ولا تقتلوا كبيرا هرما ، ولا امرأة ، ولا
وليدا ،
ولا تخربوا عمرانا ، ولا تقطعوا شجرة إلا لنفع ، ولا تعقرن بهيمة إلا لنفع ،
و لا
تحرقن نخلا ولا تغرقنه ، ولا تغدر ، ولا تمثل ، ولا تجبن ، ولا تغلل ،
ولينصرن الله
من ينصره ورسله بالغيب ، إن الله قوي عزيز ، أستودعك الله وأقرئك السلام.".
(سنن
البيهقي الكبرى - كتاب السير - باب ترك قتل من لا قتال فيه من الرهبان و
الكبير و
غيرهما, حديث رقم: 18660).
3- جاء في صحيح الجامع للألباني عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- أن
النبي
قال: "من أعان
ظالما ليدحض بباطله حقا ، فقد برئت منه ذمة الله و رسوله".
4- وفي المسند عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله
عليه وسلم
- قال: "من أعان قومه على ظلم فهو كالبعير المتردي ينزغ بذنبه ".
5- جاء في صحيح الترغيب عن أبو بكرة نفيع بن الحارث أن النبي – صلى الله
عليه وسلم-
قال: "لو أن أهل السموات والأرض اجتمعوا على قتل مسلم ؛ لكبّهم الله جميعا
على
وجوههم في النار".
6- وفي تفسير الطبري أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل دم امرئ
مسلم إلا
بإحدى ثلاث : رجل قتل رجلا فقتل ، أو زنى بعد إحصان فرجم ، أو ارتد عن
دينه".
ربع بليون قتيلهذه حرمة الإنسان في الإسلام ، سواء في دينه أو حياته أو عرضه أو ماله أو
حريته ،
وقد أكدت الفتوحات الإسلامية هذا المعنى السامي في الحفاظ على أمن الأفراد،
والأٌسر
والمجتمعات والدول، ووضعت تشريعات الحدود والقصاص والتعزيرات للحفاظ على
الأمن ،
لكن العالم الذي اجتمع لحرب الإنسان، والإجهاز على الأمان ، قتل في القرن
العشرين
ما يزيد عن ربع بليون إنسان، فضلا عن أضعافهم من الجرحى والمرضى، وهذه
إحصائية
علمية صادرة عن الباحثة الأمريكية تانيا سهو المحللة السياسية في صحيفة عرب
نيوز
حيث أوردت أن ضحايا مائة عام من 1907 -2007 هو 250 مليون إنسان قتلوا خلال
القرن
الماضي. ولا أدري كيف سيتحمل من أجّج الصراع وروع العالم وقتل هذه الملايين
مسؤوليته أمام الله؟! كيف سيلقى ربه بدماء كل هؤلاء؟! .
صناعة الأمنهذه الإحصائية لا بد أن تحرك في كل ذي حس رقيق أو قلب شفيق أو عقل دقيق أن
يكون
هناك عمل متواصل للحفاظ علي الأمن إن كانت هناك نفوس تغار على الأرواح
والأبرياء.
لا بد أن يتعاون الجميع لإحداث نوع من التفاهم بين أبناء آدم وحواء، وليس
بأن يكون
هناك سباق مجنون في امتلاك الأسلحة الفتاكة والطائرات العملاقة ، والصواريخ
والرؤوس
النووية التي يتعدى أثرها إهلاك العدو إلى إنهاك العالم كله.
إن صناعة الأمن ليست مسؤولية جهة دون أخرى ، بل لا بد من تضافر جهود
الأفراد
ومؤسسات المجتمع المدني والدولة في تحقيقه وتزكيته ، ولن يكون ذلك إجمالاً
إلا
بإيمان عميق ، وخلق وثيق ، وتحديد دقيق مَن العدو ومن الصديق؟! ، ويتم
الإعداد
لمقاومة العدو الحقيقي ، فبغيره نحن أعداء بعضنا ، وسيوفنا إلى رقابنا ،
وغضبنا نار
حارقة لإخواننا وأخواتنا ، وبني جلدتنا ، أما تحديد العدو الخارجي فيجمع
طاقة
العداء نحو هدف حقيقي ، ويبقي طاقة الود ، وشعور الحب مع كل مسلم أو مواطن
أو شريك
أو جار حسب عدالة الإسلام التي جعلت القسط والبر لكل إنسان لم يقاتلنا أو
يساند من
يحاربنا .
*
عضو المجامع الفقهية والمستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية
بالبحرين