دروس في ذكرى تحرير القدس

عوني فرسخ

صحيفة الخليج الإماراتية
في تجاوز الواقع المأزوم السابق بيانه كان لأمير الموصل البرسقي شرف المبادرة بإسهامه في دعم حلب والحيلولة دون سقوطها سنة 1124م. وهو الموقف الذي قال فيه المؤرخ العالمي توينبي: "لو سقطت حلب للصليبيين لصار الشرق لاتينياً". وبعد اغتيال البرسقي، على يد الحشاشين، حمل الراية عماد الدين زنكي، الذي أحال المد الإفرنجي إلى جزر، بعد سلسلة انتصارات استرد فيها كثيراً من مدن وقلاع شمالي بلاد الشام والجزيرة الفراتية. ونجح بذلك في توحيد شمالي العراق مع شمالي بلاد الشام. وقد ضم جيشه عدداً من شيوخ القبائل العربية ورجال حلب. وكان عماد الدين عربي النشأة والثقافة فيما كانت الموصل، التي أقام فيها سلطانه، مركزاً للثقافة العربية الإسلامية. وأعقبه ابنه نور الدين، وفي زمنه غدت دمشق عاصمة الكفاح.
إلا أن انتداب صلاح الدين الأيوبي إلى مصر للإسهام في القضاء على الفتنة التي بدت فيها بين الوزيرين شاور وضرغام، وباتت تنذر بامتداد النفوذ الإفرنجي إليها، وتمكنه بعد طول كفاح من تولي السلطان السياسي فيها، أحدث نقلة نوعية في ميزان القدرات والأدوار بتوحيده السلطة في مصر وبلاد الشام. وذلك بعد أن خاض سلسلة من الحروب ضد أصحاب السلطان والطامحين إليه تواصلت قرابة عشرين عاماً، ولم تنته إلا حين دانت له الموصل سنة 1185م. قبل عامين فقط من معركة حطين الحاسمة. ولقد امتدت حربه لإقامة دولة الطوق حول الممالك والإمارات الإفرنجية، ما بين تونس واليمن وبلاد النوبة إلى دمشق وحلب والموصل. وتحالف مع الإفرنج ضده في أثنائها العدد الأكبر من أصحاب السلطان والطامعين فيه. وتعددت انتماءات معاديه المذهبية. إذ كان بينهم شيعة من رجالات الخلافة الفاطمية التي أطاح بها، وزعامات سنية ممن آلت إليهم مقاليد الأمور في دمشق وحلب والموصل عقب وفاة نور الدين زنكي. كما شارك في ذلك راشد بن سنان زعيم إحدى فرق الإسماعيلية المعروفين بالحشاشين.
ولقد كان صلاح الدين الأيوبي كردي النسب، عربي النشأة والثقافة والقيم وأنماط السلوك. إذ ولد في تكريت، وشب في بعلبك، وعاش شبابه في دمشق والقاهرة. كما كان متفقها في الدين، وقد عرف بإجلاله للفقهاء والعلماء والأدباء واستقبالهم في مجلسه. وكان معظم جيشه عربي الضباط والجند. بينما كان المجتمع العربي في مصر وبلاد الشام هو الذي تحمل بصورة رئيسية عبء حروب التحرير التي قادها. كما كان تحرير القدس تتويجاً للمسيرة المظفرة التي حررت الجزء الأكبر مما كان قد تبقى في أيدي الفرنجة. ومع تقدير شخصيته الفذة والمكانة التي أهلته لها أخلاقه وقيمه كان للثقافة العربية الإسلامية التي تربى عليها انعكاسها على سلوكه وممارساته. فإلى جانب ما سبق ذكره حول موقفه من الإفرنج غداة تحريره القدس. فإنه وإن كان قد وضع النهاية الحاسمة للخلافة الفاطمية، وأوكل القضاء بمصر لقاض سني على المذهب الشافعي، وبنى المدارس الشافعية بمصر والقدس ودمشق، تشجيعاً للمذهب الذي كان يتبعه. إلا أنه عرف بمساواته بين أتباع المذاهب المختلفة، وخاصة تسامحه مع الشيعة. كما ساوى في معاملته بين أتباع الديانات المختلفة، وأتاح للأقباط حرية ممارسة شعائرهم إلى أقصى حد. وكان من نتائج ذلك أن أحبه الأقباط لدرجة أنهم وضعوا صورته في كنائسهم. وحين دخل القدس محرراً صحبه البطريرك الأرثوذكسي الذي أعاده لكرسيه، كما تلقى تهنئة الإمبراطور اسحق انجيلوس بعد تحريره القدس.
وإذ نحيي اليوم ذكرى تحرير القدس على يد البطل خالد الذكر صلاح الدين الأيوبي، فإن للأمة في تجربته دروساً تاريخية، إن أحسن استيعابها، قصرت الزمن الفاصل بين واقع القدس المأزوم وتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني من دنس الغزاة. وأبرز الدروس التاريخية ثلاثة:
* الأول: أهمية وضرورة مواصلة تعميق وتوسيع إطار الوعي على الخطر الصهيوني، وتعميم الشعور، خاصة لدى الأجيال الشابة، بأن ليس فلسطين وشعبها وحدهما هما المستهدفين، وإنما هو الوطن العربي والشعوب العربية جمعاء. ذلك لأن "إسرائيل" لم تلتق على إقامتها ومواصلة دعمها القوى الأشد تأثيراً في صناعة القرارات الأوروبية والأمريكية إلا لتكون أداتها في تأصيل واقع التجزئة والتخلف والتبعية العربي، لكي يتواصل استغلال الوطن العربي موقعاً وموارد وأسواقاً وقدرات بشرية.
* الثاني: لم يكن للغزاة أي تفوق لا في السلاح، ولا في العلم والمعرفة، ولا في التنظيم وإدارة الصراع، بحيث تمكنوا من تحقيق النصر بداية، وإطالة مدة الصراع قرنين من الزمن. ولكن الذي أتاح لهم ذلك أنهم واجهوا مجتمعاً يغلب فيه التشرذم والاصطراع على السلطة والنفوذ، وتغيب لدى نخبه روح المبادرة وإرادة الفعل والنخوة وإدراك أن التناقض الرئيسي والعدائي إنما هو مع الغزاة وليس مع شركاء المسيرة والمصير. وعندما امتلكت نخب حلب وجماهيرها إرادة الممانعة والمقاومة، وتوفرت لدى البرسقي المبادرة وروح التضامن، تحققت بداية انكسار الموجة الصليبية، وبدأت سلسلة التراجع التي توجها صلاح الدين بتحرير القدس.
* الثالث: بأنه من دون تكامل إمكانات وقدرات مصر وبقية الوطن العربي، وبخاصة جناحه المشرقي، ليس ممكناً توفير القدرات البشرية والإمكانات المادية اللازمة لمواجهة التحالف الإمبريالي الصهيوني. فقد لعبت مصر دور "الإقليم القاعدة" العربي زمن صلاح الدين، ومن بعده حتى تم دحر الغزاة الفرنجة كما المغول والتتار.